في صباح أحد الأيام بعد صلاة الفجر قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم يحدث أصحابه ، ولم يكن فيهم صاحباه العظيمان – الصديقُ أبو بكر
والفاروق عمر – رضي الله عنهما ، فلعلهما كانا في سريّة أو تجارة ... فقال :
بينما
راع يرعى أغنامه ، ويحوطها برعايته إذْ بذئب يعدو على شاة ، فيمسكها من
رقبتها ، ويسوقها أمامه مسرعاً ، فالضعيف من الحيوان طعام القويّ منها –
سنة الله في مسير هذه الحياة – وتسرع الشاة إلى حتفها معه دون وعي أو إدراك
، فقد دفعها الخوف والاستسلام إلى متابعته ، وهي لا تدري ما تفعل . ويلحق
الراعي بهما – وكان جَلْداً قويّاً – يحمل هراوته يطارد ذلك المعتدي مصمماً
على استخلاصها منه ... ويصل إليهما ، يكاد يقصم ظهر الذئب . إلا أن الذئب
الذي لم يسعفه الحظ بالابتعاد بفريسته عن سلطان الراعي ، وخاف أن ينقلب
صيداً له ترك الشاة وانطلق مبتعداً مقهوراً ، ثم أقعى ونظر إلى الراعي فقال
:
ها أنت قد استنقذتها مني ، وسلبتني إياها ، فمن لها يومَ السبُع؟ !!
يومَ السبُع ؟!! وما أدراك ما يومُ السبُع ِ؟!! إنه يوم في علم الغيب ، في
مستقبل الزمان حيث تقع الفتن ، ويترك الناس أنعامهم ومواشيهم ، يهتمون
بأنفسهم ليوم جلل ، ويهملونها ، فتعيث السباع فيها فساداً ، لا يمنعها منها
أحد . .. ويكثر الهرج والمرج ، ويستحر القتل في البشر ، وهذا من علائم
الساعة .
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذه القصة ،
ومِن حديث الذئب عن أحداث تقع في آخر الزمان ، ومن فصاحته ، هذا العجب
بعيد عن التكذيب ، وحاشاهم أن يُكذّبوا رسولهم !! فهو الصادق المصدوق ،
لكنهم فوجئوا بما لم يتوقعوا ، فكان هذا الاستفهام والتعجّبُ وليدَ
المفاجأة لأمر غير متوقّع :
إنك يا سيدنا وحبيبنا صادق فيما تخبرنا ،
إلا أن الخبر ألجم أفكارنا ، وبهتَنا فكان منا العجب .
فيؤكد رسولً الله
صلى الله عليه وسلم حديثَ الذئب قائلاً :
أنا أومن بهذا ... هذا أمر
عاديّ ،فالإنسانُ حين يسوق خبراً فقد تأكد منه ، أما حين يكون نبياَ فإن
دائرة التصديق تتسع لتشمل المصدر الذي استقى منه الرسول الكريمُ هذه القصة ،
إنه الله أصدق القائلين سبحانه جلّ شأنُه .
ويا لجَدَّ الصديق والفاروق
، ويا لَعظمة مكانتهما عند الله ورسوله ، إن الإنسان حين يحتاج إلى من
يؤيدُه في دعواه يستشهد بمن حضر الموقعة ، ويعضّد صدقَ خبره بتأييده
ومساندته وهو حاضر معه . لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بعِظَم
يقين الرجلين العظيمين ، وشدّة تصديق الوزيرين الجليلين أبي بكر وعمر له
يُجملهما معه في الإيمان بما يقول ، ولِمَ لا فقد كشف الله لهما الحُجُبَ ،
فعمَر الإيمانُ قلبيهما وجوانحهما ، فهما يعيشان في ضياء الحق ونور
الإيمان . فكانا نعم الصاحبان ، ونعم الأخوان ، ونعم الصديقان لحبيبهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريان ما يرى ، ويؤمنان بما يقول عن علم
ويقين ، لا عن تقليد واتباع سلبيّ.
فأبو بكر خير الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، صدّقه حين كذّبه الناسُ ، وواساه بنفسه وماله ، ويدخل
الجنة من أي أبوابها شاء دون حساب ، وفضلُه لا يدانيه فضلٌ .
والفاروق
وزيره الثاني ، ولو كان بعد الرسول صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان عمر .
أعزّ اللهُ بإسلامه دينه ، ولا يسلك فجاً إلا سلك الشيطان فجّاً غيره .
كانا
ملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكثيراً ما كان عليه الصلاة
والسلام يقول :
ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ،
وخرجت أنا وأبو بكر وعمر .
فطوبى لكما يا سيّديّ ثقةَ رسول الله بكما ،
وحبَّه لكما ، حشرنا الله معكما تحت لواء سيد المرسلين وخاتم النبيين .
وأتـْبَعَ
الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم قصةَ الراعي والذئب بقصة البقرة
وصاحبها ، فقال :
وبينما رجل يسوق بقرة – والبقر للحَلْب والحرْث وخدمة
الزرع – امتطى ظهرها كما يفعل بالخيل والبغال والحمير ، فتباطأَتْ في سيرها
، فضربها ، فالتفتَتْ إليه ، فكلّمَتْه ، فقالت: إني لم أُخلقْ للركوب ،
إنما خلقني الله للحرث ، ولا يجوز لك أن تستعملني فيما لم أُخلقْ له .
تعجّب
الرجل من بيانها وقوّة حجتها ، ونزل عن ظهرها ...
وتعجب أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: سبحان الله ، بقرةٌ تتكلم ؟!
قالوا
هذا ولمّا تزل المفاجأة الأولى في نفوسهم ، لم يتخلّصوا منها ... فأكد
القصة َ رسول ُ الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن أنه يؤمن بما يوحى إليه ،
وأن الصدّيق والفاروقَ كليهما – الغائبَين جسماً الحاضرَين روحاً وقلباً
وفكراً يؤمنان بذلك .
رضي الله عنكما أيها الطودان الشامخان ، وهنيئاً
لكما حبّ ُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكما وحبُّكما إياه .
اللهمّ
إننا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ، فارزقنا صحبة رسول الله وأبي بكر وعمر ،
يا رب العالمين ....